فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

الواو في قوله: {أو من كان ميتًا} عاطفة لجملة الاستفهام على جملة: {وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون} [الأنعام: 121] لتضمّن قوله: {وإن أطعتموهم} أنّ المجادلة، المذكورة من قَبْلُ، مجادلة في الدّين: بتحسين أحوال أهل الشّرك وتقبيح أحكام الإسلام الّتي منها: تحريم الميتة، وتحريم ما ذُكر اسم غير الله عليه.
فلمّا حَذر الله المسلمين من دسائس أولياء الشّياطين ومجادلتهم بقوله: {وإن أطعتموهم إنَّكم لمشركون} [الأنعام: 121] أعقَب ذلك بتفظيع حال المشركين، ووصَفَ حسن حالة المسلمين حين فارقوا الشّرك، فجاء بتمثيلين للحالتين، ونفَى مساواة إحداهما للأخرى: تنبيها على سوء أحوال أهل الشّرك وحسننِ حال أهل الإسلام.
والهمزة للاستفهام المستعمل في إنكار تَماثل الحالتين: فالحالة الأولى: حالة الّذين أسلموا بعد أن كانوا مشركين، وهي المشبّهة بحال مَن كان ميّتًا مودَعًا في ظلمات، فصار حيًّا في نورٍ واضححٍ، وسار في الطّريق الموصّلة للمطلوب بين النّاس، والحالة الثّانية: حالةُ المشرك وهي المشبّهة بحالة من هو في الظلمات ليس بخارج منها، لأنَّه في ظلمات.
وفي الكلام إيجازُ حذففٍ، في ثلاثة مواضع، استغناء بالمذكور عن المحذوف: فقوله: {أو من كان ميتًا} معناه: أَحَال مَن كان ميّتًا، أو صِفة مَن كان ميّتًا.
وقوله: {وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} يدلّ على أنّ المشبّه به حال مَن كان ميّتًا في ظُلمات.
وقوله: {كمن مثله في الظلمات} تقديره: كمن مثله مثَل ميّت فما صدْق (مَن) ميّت بدليل مقابلته بميّت في الحالة المشبّهة، فيعلم أنّ جزء الهيئة المشبّهة هو الميّت لأنّ المشبّه والمشبّه به سواء في الحالة الأصليّة وهي حالة كون الفريقين مشركين.
ولفظ (مثَل) بمعنى حالة.
ونفيُ المشابهة هنا معناه نفي المساواة، ونفي المساواة كناية عن تفضيل إحدى الحالتين على الأخرى تفضيلًا لا يلتبس، فذلك معنى نفي المشابهة كقوله: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور} [الرعد: 16] وقوله: {أفمَن كان مؤمنًا كَمَن كان فاسقًا لا يستوون} [السجدة: 18].
والكاف في قوله: {كمن مثله في الظلمات} كاف التّشبيه، وهو تشبيه منفي بالاستفهام الإنكاري.
والكلام جار على طريقة تمثيل حال من أسْلَم وتخلَّص من الشرك بحال من كان ميّتا فأُحْيِي، وتمثيللِ حال من هو باق في الشرك بحال ميت باق في قبره.
فتضمّنت جملة: {أو من كان ميتًا} إلى آخرها تمثيل الحالة الأولى، وجملة: {كمن مثله في الظلمات} إلخ تمثيلَ الحالة الثّانية، فهما حالتان مشبّهتان، وحالتان مشبَّهٌ بهما، وحصل بذكر كاف التّشبيه وهمزة الاستفهام الإنكاري أنّ معنى الكلام نفي المشابهة بين من أسلم وبين من بَقي في الشرك.
كما حصل من مجموع الجملتين: أنّ في نظم الكلام تشبيهين مركَّبين.
ولكنّ وجودَ كاف التّشبيه في قوله: {كمن مثله} مع عدم التّصريح بذكر المشبَّهَيْن في التّركيبين أثارَا شُبهة: في اعتبار هذين التّشبيهين أهو من قبيل التّشبيه التّمثيلي، أم من قبيل الاستعارة التّمثيلية؛ فنحا القطب الرّازي في شرح الكشاف القبيلَ الأول، ونحا التفتازاني القبيلَ الثّاني، والأظهر ما نحاه التفتازاني: أنَّهما استعارتان تمثيليتان، وأمّا كاف التّشبيه فهو متوجّه إلى المشابهة المنفيّة في مجموع الجملتين لا إلى مشابهة الحالين بالحالين، فمورد كاف التّشبيه غير مورد تمثيل الحالين.
وبين الاعتبارين بون خفي.
والمراد: بـ {الظّلمات} ظلمةُ القبر لمناسبته للميِّت، وبقرينة ظاهر {في} من حقيقة الظرفية وظاهر حقيقة فعل الخروج.
ولقد جاء التّشبيه بديعًا: إذ جعل حال المسلم، بعد أن صار إلى الإسلام، بحال من كان عديم الخير، عديم الإفادة كالميّت، فإنّ الشرك يحول دون التّمييز بين الحقّ والباطل، ويصرف صاحبه عن السّعي إلى ما فيه خيره ونجاته، وهو في ظلمة لو أفاق لم يعرف أين ينصرف، فإذا هداه الله إلى الإسلام تغيرّ حاله فصار يميّز بين الحقّ والباطل، ويعلم الصّالح من الفاسد، فصار كالحي وصار يسعى إلى ما فيه الصّلاح، ويتنكّب عن سبيل الفساد، فصار في نور يمشي به في النّاس.
وقد تبيّن بهذا التّمثيل تفضيل أهل استقامة العقول على أضدادِهم.
والباء في قوله: {يمشي به} باء السّببيّة.
والنّاس المصرح به في الهيئة المشبه بها هم الأحياء الّذين لا يخلو عنهم المجتمع الإنساني.
والنّاس المقدّر في الهيئة المشبهة هم رفقاء المسلم من المسلمين.
وقد جاء المركب التّمثيلي تامًا صالحًا لاعتبار تشبيه الهيئة بالهيئة، ولاعتبار تشبيه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّهِ بها، كما قد علمته وذلك أعلى التّمثيل.
وجملة: {ليس بخارج منها} حال من الضّمير المجرور بإضافة (مَثل)، أي ظلمات لا يرجى للواقع فيها تنوّر بنور ما دام في حالة الإشراك.
وجملة: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} استئناف بياني، لأنّ التّمثيل المذكور قبلها يثير في نفس السّامع سُؤالًا، أن يقول: كيف رضوا لأنفسهم البقاء في هذه الضّلالات، وكيف لم يشعروا بالبَون بين حالهم وحال الّذين أسلموا؛ فإذا كانوا قبل مجيء الإسلام في غفلة عن انحطاط حالهم في اعتقادهم وأعمالهم، فكيف لمّا دعاهم الإسلام إلى الحقّ ونصب لهم الأدلَّة والبراهين بَقُوا في ضلالهم لم يقلعوا عنه وهمْ أهل عقول وفطنة فكان حقيقًا بأن يبيّن له السّبب في دوامهم على الضّلال، وهو أنّ ما عملوه كان تزيّنه لهم الشّياطين، هذا التّزيين العجيب، الّذي لو أراد أحد تقريبه لم يجد ضلالًا مزيَّنًا أوضح منه وأعجبَ فلا يشبَّه ضلالُهم إلاّ بنفسه على حدّ قولهم: (والسّفاهة كاسمها).
واسم الإشارة في قوله: {كذلك زين للكافرين} مشار به إلى التّزيين المأخوذ من فعل {زين} أي مثلَ ذلك التّزيين للكافرين العجيب كيدًا ودِقَّةً زيّن لهؤلاء الكافرين أعمالهم على نحو ما تقدّم في قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطًا} في سورة البقرة (143).
وحُذف فاعل التّزيين فبني الفعل للمجهول: لأنّ المقصود وقوع التّزيين لا معرفة مَن أوقعه.
والمزيّن شياطينهم وأولياؤهم، كقوله: {وكذلك زَيَّن لكثير من المشركين قتلَ أولادهم شركاؤُهم} [الأنعام: 137]، ولأنّ الشّياطين من الإنس هم المباشرون للتّزيين، وشياطين الجنّ هم المُسَوّلون المزيّنون.
والمراد بالكافرين المشركون الّذين الكلام عليهم في الآيات السّابقة إلى قوله: {وإنّ الشّياطين لَيُوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام: 121]. اهـ.

.قال الفخر:

هذه الآية من أقوى الدلائل أيضًا على أن الكفر والإيمان من الله تعالى، لأن قوله: {فأحييناه} وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في الناس} قد بينا أنه كناية عن المعرفة والهدى، وذلك يدل على أن كل هذه الأمور إنما تحصل من الله تعالى وبإذنه، والدلائل العقلية ساعدت على صحته، وهو دليل الداعي على ما لخصناه، وأيضًا أن عاقلًا لا يختار الجهل والكفر لنفسه، فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه جاهلًا كافرًا، فلما قصد تحصيل الإيمان والمعرفة، ولم يحصل ذلك، وإنما حصل ضده وهو الكفر والجهل، علمنا أن ذلك حصل بإيجاد غيره.
فإن قالوا إنما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل أنه علم.
قلنا: فحاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر، فإن كان الكلام في ذلك الجهل السابق كما في المسبوق لزم الذهاب إلى غير النهاية، وإلا فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لإيجاده وتكوينه، وهو المطلوب. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون}، وفى سورة يونس: {كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}، للسائل أن يسأل عن الفرق؟
والجواب أنه لما تقدم قبل آية الأنعام قوله تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس} والمراد أو من كان ميتا في غمرات الجهل والكفر فأحييناه بنور الإيمان والعلم كمن مثله في الظلمات أي ظلمات الجهل والكفر متماديا على غيه غير مقلع عن كفره لا يجدى عليه إنذار ولا ينتفع بوعظ التذكار فسواء في حقه الإنذار وعدمه فلما ذكر في هذا الطرف من لم يشم بارق إيمان وسجل بعدم خروجه عن مقتضى موبقاته في شنيع ذلك الخذلان أعقب تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا بعملون} فوسم بكفره للبأس من خيره.
أما آية يونس فقد تقدم قبلها: {وإذا مس الإنسان الضر} والمراد هنا جنس الإنسان: {دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما} أي دعانا على أي حال كان على مقتضى قوله تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} ثم قال: {فلما كان كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه} ذكر سبحانه من حال الإنسان حال متذكر داع عند مس الضر غير مشرك ولا كافر حال ففى حاله في دعائه عند الضر ومروره في المخالفات أو الغفلة عند كشفه شبه من حال المقول فيهم: {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا}، فأعقب ذكر هذا الضرب بقوله تعالى: {كذلك زين للمسرفين} أي أن هؤلاء زين لهم لمرتكبهم في مرورهم بعد كشف الضر عنهم على أحوالهم قبل مس الضر إياهم كما زين للمسرفين ما كانوا يعملون، فتشبهت أحوالهم بأحوال المسرفين ليزدجر المؤمن ويستعيذ من مثل تلك الحال ويدأب على الطاعة والتضرع إلى الله سبحانه، والمسرف هنا والله أعلم محتمل أن يراد به المسرف في المعاصى دون الكفر أو المسرف في كفره المقول فيه وفيمن كان على حاله: {وأن المسرفين هم أصحاب النار}، فعدل في آية يونس عن أن يقال: {للكافرين} إلى قوله: {المسرفين} لما في صفة الإسراف من الاحتمال لمناسبة ما تقدمه من تقلب حالتى الإنسان عند مس الضر إياه وكشفه عنه.
أما آية الأنعام فقد تقدمها قوله تعالى: {كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} فإنما ذكر في هذه الآية طرفان قد بولغ فيهما وهما المجعول له نور يمشى به في الناس لا يفارقه والمتخبط في ظلمات لا يخرج عنها فلا يمكن أن تكون حال أسوأ من حال هذا لأن ذكر الطرفين لا واسطة بينهما يقتضى من حيث اليلاغة النهاية في كل طرف فعبر هنا بصفة الكفر أما حال المسرف من حيث ما ذكرنا من الاحتمال فدون حال المتخبط في الظلمات فعلى هذا يحتمل أن يكون الإسراف فيما دون الكفر فيكون المتصف به غير منقطع الرجاء إذا لم يبلغ الكفر، قال تعالى: {قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله}، فشتان ما بين مسرف راج ومتخبط في ظلمات كفر داج، فجاء كل على ما يناسب، ولم يكن ليناسب العكس بوجه، والله سبحانه أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}
الإيمان عند هؤلاء القوم حياةُ القلب بالله. وأهل الغفلة إذْ لَهُمْ الذكر فقد صاروا أحياءً بعد ما كانوا أمواتًا، وأربابُ الذكرِ لو اعتراهم نسيانٌ فقد ماتوا بعد الحياة. والذي هو في أنوار القرب وتحت شعاع العرفان وفي روْح الاستبصار لا يدانيه مَنْ هو في (أسْرِ) الظلمات، ولا يساويه مَنْ هو رهين الآفات. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}
والحق سبحانه وتعالى- كما عرفنا- يعرض بعض القضايا لا عرضًا إخباريًا منه، ولكن يعرضها باستفهام؛ لأنه- جل وعلا- عليم بأنه حين يأتي لك الاستفهام، ثم تدير ذهنك لتجيب فلن تجد إلا جوابًا واحدًا هو ما يريده الحق. إذن فالأسلوب أحيانًا يكون أسلوبًا خبريًا أو يكون استفهامًا بالإثبات أو استفهامًا بالنفي. وأقواها الاستفهام بالنفي. وحين يعرض سبحانه القضية التي نحن بصددها يوضح وهو العليم أنك إن أحببت أن تجيب فلن تجد إلا الجواب الذي يريده الحق.
إننا نجد في الآية الكريمة موتًا وحياة، وظلامًا ونورًا.
وما هي الحياة؟. الحياة هي وجود الكائن على حالة تمكنه من أداء مهمته المطلوبة منه، وما دام الشيء يكون على حالة يؤدي بها مهمته ففيه حياة، وأرقى مستوى للحياة هو ما تجتمع فيه الحركة والحس والفكر، وهذه الأمور توجد كلها في الإنسان. أمّا الحيوان ففيه حس وحركة وليس عنده فكر. غير أن الحيوان له غريزة أقوى من فكر الإنسان، فهو محكوم بالغريزة في أشياء وبالاختيار في أشياء، وليس لك في الغريزة عمل. لكن في مجال الاختيار لك عمل، تستطيع أن تعمله وتستطيع ألا تعمله.